التشريع في عهد صغار الصحابة و التابعين
يبتدىء هذا الدور من ولاية معاوية ابن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه، أي في بداية العهد الأموي سنة 41هجرية إلى أوائل القرن الثاني من الهجرة.
1- تفرُّق المسلمين سياسياً و اتساع نطاق الخلاف لظهور نزعتين سياسيتين بعد مقتل عثمان رضي الله تعالى عنه و هما: الخوارج و شيعة علي ( وهي فئة سياسية، أي لها بعض الآراء السياسية المعينة لا أنها كانت تخالف المسلمين في بعض أمور الدِّين كحال الشيعة في عصرنا، أما الشيعة كمذهب ديني كما هو في عصرنا لم يكن له وجود في ذلك العصر و لم يظهر هذا المذهب إلا في القرن الثالث الهجري).
2- انتشار الصحابة في البلاد بعد أن كانوا محصورين بين مكة و المدينة و ذلك لاتساع رقعة الإسلام و الاحتياج إلى فتاوى جديدة و بالتالي إلى سماع الأحاديث.
3- ظهور الكذب في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، و ذلك للأسباب التالية:
أ - وجود الزنادقة و أعداء الدين من اليهود ( كعبد الله بن سبأ ) و الروم و المزدكية وغيرهم الذين كانوا يكيدون للإسلام باطلاً، و هؤلاء لبسوا مسوح الإسلام و كانوا يُظهرون التَّدين و يجلسون مجلس الرواية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليستمعوا الأحاديث ثم يجلسون مجالس أخرى يعلِّمون الناس فيها أحاديث مكذوبة. و قد تلبَّس كثير من هؤلاء المجرمين بالجرم المشهود فعوقبوا و أنزلت بهم الخلافة الإسلامية آنذاك أشد العقوبات فكان أحدهم يقول قبل أن يُقتَل لينفِّس عن غيظه: أين أنتم من الأحاديث التي وضعتُها فيكم أحرِّمُ الحلال و أحِلُّ الحرام.
ب- انتصار المتعصبين لمذاهبهم كدعاة المبتدعة: يروي عبد الله بن ذريعة يقول: قال لي شيخ من الخوارج تاب: " إنَّ هذا الحديث دين ، فانظروا عمَّن تأخذون الحديث، فإنّا كنا إذا رأينا رأياً جعلناه حديثاً ".
و كذا من فئة الشيعة، ورد أنَّ جابر الجم و هو ممن غالى من التشيع قال أنا عندي خمسون ألف حديث، يرويها ابتداعاً عن رسول الله صلى الله عليه و سلم.
ج- العاطفة الإسلامية الفجة التي لا تضبطها قواعد العلم، كالتي نجدها عند جهلة المتعبدين الذين وضعوا الأحاديث في الفضائل و غيرها. أراد بعض الجهلة أن يُرَغِّبوا العامة في الجنة و يخوِّفوهم من النار، فأخذوا يضعون ( أي يختلقون ) الأحاديث و هم يقولون إذا وقعوا بيد العلماء: " نحن نكذب لرسول الله صلى الله عليه و سلم و لا نكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم " !.
د- رغبة بعض الفسقة من المحدثين في جمع عدد كبير من الناس حولهم في المساجد و تنافسهم فيما بينهم لجعل حلقة الواحد منهم أكبر من حلقة غيره، و هذه الظاهرة نجدها حتى في عصرنا اليوم فتجد واحداً ممن ادعى العلم يروي الأحاديث الموضوعة و المكذوبة في دروسه و عامة الناس لا يعرفون لا بل يظنونه من كبار العلماء ! و كان العلماء يحذِّرون من مجالسة هؤلاء القصاصين.
فائدة: من علامات الحديث الموضوع ما يلي:
1- ذكر أعداد كثيرة ( سبعون ألفاً مع كل ألف ... )
2- الأجر الكثير على العمل القليل .
3- قصص عن سيدنا موسى و سيدنا داود عليهما السلام.
4- الأحاديث المتعلقة بفضائل بعض السُّوَر المذكورة في بعض كتب التفاسير، أما الأحاديث الواردة في فضل سورة البقرة و آل عِمران و الكهف و يس و تبارك و الإخلاص و ما شابه فيُحتج بها.
من هنا كان لا بد من صحوة المسلمين لمجابهة هذا الخطر، فمنعوا رواية الحديث و حصروها فيمن كانوا أهلاً لذلك. و بدأ تدوين السنّة بأمر من عمر بن عبد العزيز، ففي عام 99 هجرية كان أبو بكر بن حزم أول من دوَّن أحاديث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وجمعها بين دفتي كتاب و من ثم تبعه الكثيرون كسفيان بن عيينة و غيره. و باشر العلماء أيضاً بتدوين العلوم الكفيلة بحفظ الرواية كعلم الجرح و التعديل، و وضع شروط الرواية و شروط الحديث الصحيح و الحسن و الضعيف و المرسل و الموقوف ... و في ما يلي نورد بعض التعاريف المهمة المتعلقة بعلم مصطلح الحديث:
لقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم كما نعلم ، في وجوب الأخذ بهديه في كل شيء من الأمور، و من ذلك قوله صلى الله تعالى عليه و سلم: " عليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ، و إياكم و مُحدَثات الأمور فإن كل محدثة بِدعة، و كل بدعة ضلالة .
والنبي صلى الله تعالى عليه و سلم قد حض على اتباع سنته لما فيها من مضاعفة الأجر:
قال صلى الله تعالى عليه و سلم: " من أحيى سنة من سنتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً "، أخرجه الترمذي. و عنه صلى الله عليه و سلم قال: " المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر مائة شهيد "، أخرجه الطبراني في الأوسط و البيهقي في الزهد.
لذلك عنيت الأمة الإسلامية بالحديث النبوي، و بذلت من أجله أعظم الجهد. فقد نقل لنا الرواة أقوال الرسول عليه الصلاة و السلام في الشؤون كلها العظيمة و اليسيرة، بل الجزئيات التي قد يتوهم أنها ليست موضع اهتمام، حتى يدرك من يتتبع كتب السنة أنها ما تركت شيئاً صدر عنه صلى الله تعالى عليه و سلم إلا روته و نقلته. و لقد علم الصحابة بقيادة الخلفاء أنهم خرجوا هداة لا جباة، فأقام الكثير من الصحابة الفاتحين في أصقاع متفرقة ينشرون العلم و يبلِّغون الحديث.
و نجد هذا الحرص، يسري من الصحابة إلى التابعين فمن بعدهم … من هنا تقرر للناظر حقيقة لها أهميتها، و هي أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يرجع إليهم الفضل في بدء علم الرواية للحديث، ذلك لأن الحديث النبوي في حياة المصطفى كان عِلماً يُسمَع و يُتَلقَّف منه صلى الله تعالى عليه و سلم - كما مر معنا - فلما لحق صلى الله عليه و سلم بالرفيق الأعلى، حدَّث عنه الصحابة بما وعته صدورهم الحافظة و رووه للناس بغاية الحرص و العناية، فصار عِلماً يُروى و يُنقَل، و وجد بذلك علم الحديث رواية حيث وضع الصحابة له قوانين تحقق ضبط الحديث، وتميز المقبول من غير المقبول و من هنا نشا علم مصطلح الحديث.
تعريف الحديث : هو " ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه و سلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خِلقي أو خُلقي ".
ومعنى عِلم الحديث كتعبير لغوي إدراك الحديث، و لكنه استُعمِلَ عند العلماء كاصطلاح يطلقونه بإطلاقين:
أحدهما: علم الحديث رواية أو رواية الحديث.
والثاني: علم الحديث دراية أو علم دراية الحديث.
عِلم الحديث رواية: " هو عِلم يشتمل على أقوال النبي صلى الله عليه و سلم و أفعاله و تقريراته و صفاته و روايتها و ضبطها و تحرير ألفاظها ". فهو عِلم موضوعه ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه و سلم، و يبحث عن روايتها و ضبطها و دراسة أسانيدها و معرفة حال كل حديث ،من حيث القوة والضعف. كما يبحث في هذا العلم عن معنى الحديث و ما يُستنبَط منه من الفوائد. باختصار، فعلم الحديث روايةً يحقق بذلك غاية عظيمة جداً تقوم على " الصون عن الخلل في نقل الحديث ".
عِلم الحديث دراية: و يُطلَق عليه " مصطلح الحديث "، و هو: " علم بقوانين يُعرَف بها أحوال السند و المتن ".
والسند هو حكاية رجال الحديث الذين رووه واحداً عن واحد إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم. و أحوال السند: هي ما يطرأ عليه من اتصال، أو انقطاع، أو تساهل بعض رجاله في السماع، أو سوء الحفظ، أو اتهامه بالفسق أو الكذب أو غير ذلك.
وأما المتن: فهو ما ينتهي إليه السند من الكلام. و أحوال المتن، هي ما يطرأ عليه من رفع، أو وقف، أو شذوذ أو علة، أو غير ذلك. فعلم المصطلح يضبط رواية الحديث و يحفظ الحديث النبوي من الخلط فيه أو الافتراء عليه، و لولا هذا العلم لاختلط الحديث الصحيح بالضعيف و الموضوع و لاختلط كلام رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بكلام غيره!. و يُعتَبَر القرن الثالث الهجري عصر التدوين الذهبي للسنَّة، و فيه أصبح كل نوع من أنواع الحديث علماً خاصاً، فأفرد العلماء كل نوع منها بتأليف خاص. و لقد توالت سلسلة الجهود العلمية متواترة متضافرة لحمل الحديث النبوي و تبليغه عِلماً و عملاً، فناً و دراسة و شرحاً، منذ عهد النبي صلى الله عليه و سلم إلى عصرنا الحاضر، و إنها حقاً لمكرمة عظيمة أكرم الله بها هذه الأمة، بل هي معجزة تحقق صدق التنزيل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. قال الحافظ أبو علي الجياني: "خص الله تعالى هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها: الإسناد، و الأنساب، و الإعراب".
1- الحديث الصحيح: هو الحديث الذي اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط من أوله إلى منتهاه، دون شذوذ أو علة.
فالعدالة والضبط يحققان أداء الحديث كما سُمِعَ من قائله، و اتصال السند على هذا الوصف من الرواة يمنع اختلال ذلك في أثناء السند، و عدم الشذوذ يحقق و يؤكد ضبط هذا الحديث الذي نبحثه و أنه لم يدخله وهم، و عدم الإعلال يدل على سلامته من القوادح الخفية، فكان الحديث بذلك صحيحاً لتوفر النقل الصحيح ، فيُحكَم له بالصحة إجماعاً.
2-الحديث الحسن: هو الحديث الذي اتصل إسناده بنقل عدل خفَّ ضبطه.فهو كالحديث الصحيح إلا أنَّه في إسناده من خفَّ ضبطه.
بالمقارنة بين هذا التعريف، و بين تعريف الحديث الصحيح، نجد أن راوي الحديث الصحيح تام الضبط، أما راوي الحديث الحسن فهو قد خف ضبطه.
فالمقصود أنه درجة أدنى من الصحيح، من غير اختلال في ضبطه و ما كان كذلك يحسن الظن بسلامته فيكون مقبولاً.
3- الحديث الضعيف: هو الحديث الذي فقد شرطاً من شروط الحديث المقبول من عدالة أو ضبط أو اتصال أو سلامة من الشذوذ والعلة.
4-الحديث الموضوع: هو المُختَلَق المصنوع. أي الذي يُنسَب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كذباً، و ليس له صلة حقيقة بالنبي صلى الله تعالى عليه و سلم، و هو ليس بحديث.
5-الحديث الموقوف: هو ما أُضيف إلى الصحابة رضوان الله تعالى عليهم. سُمِّيَ موقوفاً لأنه وقف به عند الصحابي، و لم يرفعه إلى النبي صلى الله تعالى عليه و سلم. و بعض العلماء يطلقون على الموقوف اسم الأثر.
6-الحديث المقطوع: هو ما أُضيف إلى التابعي.
7- الحديث المُرسَل: هو ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بأن يقول: "قال رسول الله صلى الله عليه و سلم" سواء كان التابعي كبيراً أو صغيراً.
الجرح عند المحدثين هو الحكم على راوي الحديث بالضعف لثبوتب ما يسلب أو يخل بعدالته أو ضبطه. و التعديل هو عكسه، و هو تزكية الراوي و الحكم عليه بأنه عدل ضابط.
فعلم الجرح و التعديل هو ميزان رجال الرواية ، به نعرف الراوي الذي يُقبَل حديثه و نميزه عمن لا يُقبَل حديثه. و من هنا اعتنى به علماء الحديث كل العناية، و بذلوا فيه أقصى جهد، و تكبدوا المشاق، ثم قاموا في الناس بالتحذير من الكذابين و الضعفاء المخلطين و لقد انعقد إجماع العلماء على مشروعيته، بل على وجوبه للحاجة الملجئة إليه.
ولقد اشتُرِطت شروط لا بد من أن تتوفر في الجارح و المعدل لكي تجعل حكمه منصفاً كاشفاً عن حال الراوي، كالعلم، و التقوى، و الورع، و الصدق، واليقظة التي تحمله على التحري و الضبط و أن يكون عالِماً بأسباب الجرح و التعديل و بتصاريف كلام العرب فلا يضع اللفظ لغير معناه.
ولقد تعجب علماء الغرب و قالوا نحن لا نتصور أنَّ أي حضارة ينشأ فيها علم كهذا، لأنه علم يحتاج إلى جهد كبير و إنفاق الأموال و السفر ... و لكن لو علموا كيف كان حب المسلمين لرسول الله صلى الله عليه و سلم، و كيف كان الواحد منهم يفديه بروحه كما فعل ذاك الصحابي في معركة أُحُد وهو سيد الأنصار، حيث جعل من نفسه و صدره و وجهه درعاً لرسول الله صلى الله عليه و سلم، و عندما انتهت المعركة أرسل النبي عليه الصلاة و السلام يتفقده، جاءه الصحابة فوجدوه ملقياً على الأرض على شفير الموت، سألوه عن حاله فقال لهم: " كيف رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ قالوا: بخير، قال:إذاً أنا بخير و الحمد لله ، بلِّغوا عني الأنصار ، لأن متم جميعاً فداءً للنبي صلى الله عليه و سلم خير لكم من أن يجرح رسول الله صلى الله عليه و سلم بجرح ".
لذلك شعر علماء المسلمين أنهم بعملهم هذا ( و هو تدوين السنة ) إنما يدافعون عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و عن حديثه، فكان الواحد منهم يشقي نفسه و يفني عمره بالسهر و التعب و السفر و إنفاق الأموال في سبيل المحافظة على سنّة الحبيب محمد صلى الله عليه و سلم ، جزاهم الله تعالى عن أمة الإسلام كل خير.
1- موطأ مالك : و يعود تدوين هذا الكتاب إلى منتصف القرن الثاني هجري ، وقد استغرق تصنيفه و جمعه و تحريره أربعين عاماً. أما عن تسميته، فقد رُوِيَ عن الإمام مالك أنه قال : " عرضتُ كتابي هذا على سبعين فقيهاً من فقهاء المدينة، كلهم وطَّأني عليه فسمَّيته الموطأ، ( وطَّأ أي وافق ).
جمع في الموطأ 1720 حديثاً مرفوعاً و600 مرسلاً و222 موقوفاً و أقوال التابعين وفتاويهم.
و الموطأ له مكانة عالية جداً و أغلب ما فيه صحيح. قال الشافعي: " ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك ". ولم يكن كتاب البخاري قد ظهر بعد.
2- مُسنَد الإمام أحمد: دوَّنه في أول القرن الثالث هجري و يُعتبَر من أشهر دواوين السُنة المشهورة وأجمعها للأحاديث، فقد وضع فيه الإمام أحمد قُرابة ثلاثين ألف حديث، انتقاها من نحو سبعمائة وخمسين ألف حديث. ولقد راعى فيه تسلسل نظام الطبقات بالنسبة للصحابة الذين أسند إليهم الحديث، حيث قدَّم أولاً أحاديث العشرة المُبَشَّرين بالجنة وأولهم الخلفاء الأربعة ثم بعدهم أحاديث أهل البيت وأقدم الصحابة إسلاماً ...
أكثر أحاديث المسند صحيحة بل وفيه من الأحاديث الصحيحة زيادة على ما في الصحيحين بل والسنن الأربعة، وفيه الحديث الحسن والضعيف، ويُقال إنَّ فيه بعض الأحاديث الموضوعة ولكن ما وُجِدَ فيه لا يزيد عن أربعة أحاديث وقد اعتُذِرَ عنها بأن تركها الإمام أحمد سهواً، و قد عاجلته منيَّته قبل إتمام تنقيح المسند منها، و قيل هي من زيادة ابنه عبد الله بن أحمد.
3- صحيح البخاري: و يسمى الجامع الصحيح و يُعتَبَر صحيح البخاري عند أهل السُنة و جمهور الفقهاء والأصوليين أصح كتب السنة والأحاديث على الإطلاق، بل هو عندهم أصح كتاب بعد القرآن الكريم.
ويُعتبَر صحيح البخاري أول كتاب دُوِّنَ في بداية النصف الثاني من القرن الثالث هجري، وقد بذل الإمام البخاري في تصنيف كتابه " الجامع الصحيح " جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً بلغ ستة عشر عاماً حتى جمعه.
وقد اختار أحاديثه من ستمائة ألف حديث، واقتصر على إخراج الصحيح منها ولم يستوعب كل الصحيح بل اختار منه ما وافق شرطه، وقد ترك من الصحيح أكثر مما أثبته لئلا يطول الكتاب. جمع الإمام البخاري في كتابه هذا نبذة من أحاديث الأحكام والفضائل والأخبار والأمور الماضية و المستقبلية بالإضافة إلى الآداب والرقائق والدعوات والمغازي والسِّيَر لذلك سمي كتابه بالجامع الصحيح . وما كان من الأحاديث غير المسندة مما لم يتصل سنده من المعلقات، مما حُذِفَ من أول سنده راوِ أو أكثر فهذا خارج عن نمط الكتاب ومنهجه وموضوعه و مقاصده ، وإنما أورده البخاري للإستشهاد فقط في تراجم أبواب الكتاب ولا يوجد شيء منها في صلب الكتاب. و مما ينبغي أن يُعلَم أنَّ ما أورده البخاري منها بصيغة الجزم مثل " قال " و " ذكر " وروى " فهذا يفيد الصحة إلى من علَّق عنه، وأما ما علَّقه عن شيوخه بصيغة الجزم فليس من المعلَّق و إنما هو من المتصل و قد يعلِّق البخاري الحديث في بعض المواضع من الجامع الصحيح و هو بسند متصل في مكان آخر في نفس الصحيح و قد يكون الحديث معلقاً عنده في الصحيح و هو صحيح متصل عند مسلم أو عند غيره من أصحاب كتب السنة المشهورة. أما إذا كان المعلق بصيغة لا تدل على الجزم و يقال لها صيغة التمريض مثل " قيل "و " يُروى " و"يُذكر"، فهذا لا يستفاد منه الصحة ولا عدمها بل يحتمل.
أحاديث الجامع الصحيح على ما حققه ابن حجر بلغت 2602 حديثاً غير مكرراً، و إنَّ جملة ما فيه من الأحاديث المكررة سوى المعلقات والمتابعات 7398 حديثاً و جملة ما فيه من المعلقات 341 وجمع ما فيه بالمكرر 9082.
أجمع شروحه:
1- فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي .
2- عمدة القاري بشرح البخاري للعيني الحنفي.
4- صحيح مسلم : يسمى الجامع الصحيح و يُعتبَر ثاني كتب الصحاح. استغرق جمعه 12 عاماً، وقد انتقاه من ثلاثمائة ألف حديث. جملة ما في صحيح مسلم دون المكرر أربعة آلاف حديث وهو بالمكرر يزيد على صحيح البخاري لكثرة طُرُقه. لم يستوعب البخاري ومسلم في صحيحيهما كل الأحاديث الصحيحة ولا التزما إخراج كل الصحيح وإنما أخرجا من الصحيح ما هو على شرطهما. فقد رُويَ عن البخاري أنه قال: " ما وضعتُ في كتابي الجامع إلا ما صح و تركتُ من الصحاح مخافة الطول ". وقال مسلم: " ليس كل شيء عندي صحيح وضعتُه هنا وإنما وضعتُ ما أجمعوا عليه ". إذاً فإنَّ كثيراً من الأحاديث الصحيحة توجد عند غيرهما من الكتب المعتمَدة ، ممن التزم أصحابها إخراج الصحيح فيها كمستدرك الحاكم وصحيح ابن حِبَّان و صحيح ابن خزيمة. والصحيح أن يُقال إنه لم يفُت الأمهات الست - الصحيحين و السنن الأربعة ( سنن أبي داود وسنن الترمذي و سنن ابن ماجه و سنن النَّسائي ) - إلا اليسير من الأحاديث الصحيحة و توجد هذه الزوائد من الأحاديث الصحيحة في مسند أبي يعلى و البزَّار و بقية السنن الأخرى.
5- سنن أبي داود: اعتنى أبو داود بأحاديث الأحكام خاصة و انتقى صحيحه من خمسمائة ألف حديث واشتمل على أربعة آلاف حديث من أحاديث الأحكام خاصة، لذلك فهو مرجع للفقهاء في أحاديث الأحكام. وهذا الكتاب هو أول السنن الأربعة و أقدمها منزلة بعد الصحيحين. قال أبو داود: " قد ذكرتُ فيه الصحيح وما يقاربه وما كان فيه وهن شديد بيَّنتُه و ليس في كتابي هذا الذي صنَّفتُه عن رجل متروك الحديث شيء ". و لكن مع هذا فهو لا ينص على صحة الحديث ولا ضعفه، فيسكت عنه. وما سكت عنه في منهجه صالح للإحتجاج به و لكن العلماء تتبعوا أحاديث السنن و دققوا فيها وحكموا عليها.
6- جامع الترمذي: ويسمى سنن الترمذي، ويُعتبَر في المرتبة الثانية بعد سنن أبي داود. التزم فيه الترمذي بأن لا يُخَرِّج إلا حديثاً عَمِلَ به فقيه أو احتج به مجتهد. ولم يلتزم الترمذي بإخراج الصحيح فقط و لكنه أخرج الصحيح ونصَّ على صحته و أخرج الحسن و بيَّنه و نوَّه به وأكثر من ذِكره وهو الذي شهره، وأخرج الحسن الصحيح. يُعتبَر كتاب الترمذي من مظان الحديث الحسن. وأخرج أيضاً الضعيف ونصَّ على ضعفه وأبان علته وأخرج بعض الأحاديث المنكرة في باب الفضائل و نبَّه عليها غالباً. تميَّز كتابه بالاستدلالات الفقهية واستنباط الأحكام من الأحاديث وبيَّن من أخذ بها أو عمِلَ بها من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين من فقهاء الأمصار. وقد تضمَّن كتابه أيضاً كتاباً آخر سماه " العلل "، كشف فيه علل بعض الأحاديث و بذلك يكون جامع الترمذي قد تضمَّن فوائد كثيرة.
7- سنن النَّسائي: صنَّف النسائي "سننه الكبرى" التي تُعتبَر أقل الكتب - بعد الصحيحين - حديثاً ضعيفاً ورَجُلاً مجروحاً ، ثم استخلص منه " السنن الصغرى " و تسمى " المجتبى " و هذا الكتاب هو أقل السنن حديثاً ضعيفاً و عدد أحاديثه 5761 حديثاً.
8- سنن ابن ماجه: يُعتبَر هذا الكتاب أدنى الكتب الستة في الرتبة. رتب ابن ماجه الأحاديث فيه على أبواب الفقه شأنها شأن السنن الأخرى. جمع فيه 4341 حديثاً منها 3002 حديثاً أخرجها أصحاب الكتب الخمسة و 1339 حديثاً زائداً عن الكتب الخمسة، منها 428 حديثاً صحيحالإسناد و613 حديثاً ضعيفاً والباقي 99 حديثاً ما بين واهٍ أو منكر أو موضوع.
خلاصة: إنَّ أصحاب السنن الأربعة لم يلتزموا إخراج الصحيح فقط كما فعل صاحبا الصحيحين البخاري ومسلم، بل أخرجوا الصحيح والحسن والضعيف، وتتفاوت كتبهم في المنزلة بحسب تفاوتهم في العلم والمعرفة، ولقد كان منهجهم في التأليف هو ترتيب الأحاديث على أبواب الفقه والاقتصار على أحاديث الأحكام. أما أصحاب الجوامع فقد تناولوا مع أحاديث الأحكام أحاديث العلم والوحي والتفسير والمغازي والسَّيَر والقصص والفتن و أشراط الساعة و غير ذلك من المواضيع العامة الجامعة لكثير من الأبواب.
و نخلص إلى القول أن كل ما في صحيح البخاري و مسلم صحيح و أغلب ما في السنن الأربعة صحيح.
فوائد:
- إذا قيل رواه الشيخان أو مُتَّفق عليه أو أخرجه صاحبا الصحيحين ، فمعناه أنه رواه البخاري و مسلم فيصحيحيهما، وقد يرمز له بعض المحدِّثين ب" ق " أي متفق عليه.
- إذا قيل رواه الجماعة، يُقصَد به أصحاب الكتب السبعة: الصحيحان و السنن الأربعة و مسند أحمد.
- إذا قيل رواه الستة، فهم البخاري ومسلم وأبو داود ة الترمذي و النسائي و ابن ماجه ما عدا مسند الإمام أحمد.
- إذا قيل رواه أصحاب السنن أو الأربعة فيعني أصحاب السنن عدا البخاري و مسلم.
- إذا قيل رواه الخمسة فهم أصحاب السنن الأربعة وأحمد فقط.
- إذا قيل رواه الثلاثة فهم أصحاب السنن ماعدا ابن ماجه.
ملاحظة: للبخاري كتب أخرى غير الجامع الصحيح مثل الأدب المفرد وغيره ولم يلتزم البخاري بهذه الكتب الصحة كما التزمها في الجامع الصحيح.
انظر4
انظر4
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق