--- ---- أحلــــــــــــــــــى موقع : 2- الدور الثاني

الجمعة، أكتوبر 22، 2010

2- الدور الثاني



التشريع في عصر كبار الصحابة

توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تكامل القرآن نزولاً ولكنه لم يُجمَع في مصحف واحد بين دفتي كتاب، بل كان محفوظاً في صدور الحُفَّاظ وصحف كتَّاب الوحي، وكان عدد الحفاظ في العهد النبوي كثيراً جداً. وكان قد وعى كثير من الصحابة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعضهم في الصدور كأبي هريرة، وبعضهم في الكتابة في السطور لا تدويناً. وتولى أبو بكر رضي الله عنه الخلافة ولا يزال التشريع يعتمد على مصدرين أساسيين هما القرآن والسنة، وسنتكلم أولاً عن القرآن وما طرأ عليه من جديد.
حصل في أول عهد أبي بكر رضي الله عنه ما دفعه إلى وجوب جمع القرآن كله في مصحف ذلك أنه واجهته أحداث جسام في ارتداد جمهرة العرب، فجهز الجيوش لحروب المرتدين، وكانت غزوة أهل اليمامة سنة 12 للهجرة تضم عدداً كبيراً من الصحابة القرَّاء، فاستشهد في هذه الغزوة سبعون قارئاً (أي حافظاً) من الصحابة، فهال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدخل على أبي بكر وأشار عليه بجمع القرآن وكتابته بين دفتي كتاب خشية الضياع بسبب وفاة الحفاظ في المعارك. ولكن أبا بكر نفر من هذه الفكرة وكَبُر عليه أن يفعل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظل عمر يراوده حتى شرح الله تعالى صدر أبي بكر لهذا الأمر، فأرسل إلى زيد بن ثابت لمكانته في القراءة والكتابة والفهم والعقل، ولأنه كان صاحب العرضة الأخيرة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أي كان آخر الصحابة الذين قرأوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كاملاً وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " خذوا عنه القرآن " أو بما معناه، وقصَّ عليه قول عمر رضي الله عنه. نفر زيد من ذلك كما نفر أبو بكر الذي ظل يراجعه حتى شرح الله تعالى صدره لذلك. و يروي زيد بن ثابت فيقول: " قال أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنتَ تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبَّع القرآن فاجمعه. يقول زيد: " فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل مما أمرني به من جمع القرآن "، وقال لأبي بكر: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم؟
قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر و عمر، فتتبَّعتُ القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، ووجدتُ آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري. لم أجدها مع غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر ". وكان زيد بن ثابت لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، وقوله أنه لم يجد آخر سورة التوبة إلا عند أبي خزيمة الأنصاري لا يعني أنها ليست متواترة، وإنما المراد أنه لم يجدها مكتوبة عند غيره، وكان زيد يحفظها، وكان كثير من الصحابة يحفظونها كذلك، ولكنَّ زيداً كان يعتمد على الحفظ والكتابة معاً، فكان لا يكتب الآية حتى يأتيه اثنان من الصحابة حفظا هذه الآية من فم النبي صلى الله تعالى عليه و سلم، واثنان آخران كتباها بين يدي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم و لا يكتفي بمن كتب ولكن ليس بين يدي المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم، و هذا شرط لا بد منه حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه كان أمِّياً وبقي أمِّياً حتى توفي و لكنه كان يصوِّب ويصحح لكتبة الوحي الذين يكتبون بين يديه إذا أخطأوا وهذا من معجزاته صلى الله تعالى عليه و سلم. وهنا يظهر لنا شدة حرص زيد بن ثابت رضي الله عنه ومبالغته في الاحتياط. أخرج ابن أبي داود من طريق هشام بن عروة عن أبيه أنَّ أبا بكر قال لعمر ولزيد: " اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه ". وفسر الجمهور أنَّ المقصود شاهدين عدلين في الكتابة وشاهدين عدلين في الحفظ.
قال السخاوي: " المراد أنهما يشهدان على أنَّ ذلك المكتوب كُتِبَ بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ".
وقال أبو شامة: " وكان غرضهم أن لا يُكتَب إلا من عين ما كُتِبَ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا من مجرد الحفظ ... ". والذي يظهر أنَّ أبو خزيمة الأنصاري شهادته بشهادة رجلين ولذلك أخذ منه زيد بن ثابت. ولعله جاء بعد أبي خزيمة من عنده هذه الآية مكتوبة بين يدي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولكن زيداً كان قد اكتفى بأبي خزيمة لأن شهادته بشهادتين كما ذكرنا وذلك لأنه كان لأحد من اليهود دَيْنٌ على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أدّاه له، فجاءه اليهودي يوماً وأخذ يوبخ رسول الله عليه الصلاة والسلام ويعَيِّره ويتهمه بأنه أخر سداد دَينه فأخبره عليه الصلاة والسلام أنه أدّى له الدَّين، ولكن اليهودي أنكر، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم من يشهد لي؟ فقام أبو خزيمة فشهد له. فقال له صلى الله تعالى عليه و سلم: كيف تشهد لي على شيء لم تره؟ (أي إنك ما رأيتني حين سددت دَين ذلك اليهودي)، فقال أبو خزيمة: يا رسول الله أصدقك بخبر السماء أفلا أشهد لك على هذا!
فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: شهادة أبي خزيمة بشهادتين. فكان أحد من الصحابة إذا أراد نكاحاً أو معاملة أتى بأبي خزيمة الذي كان يكفي عن شاهدَين. وقد تم جمع القرآن كله بين دفتي كتاب خلال سنة واحدة تقريباً أي بعد سنة من وفاة النبي صلى الله عليه و سلم، فكان أبو بكر رضي الله عنه أول من جمعه بهذه الصفة في مصحف واحد مرتب الآيات والسور مشتملاً على الأحرف السبعة التي نزل بها، ويرى بعض العلماء أنَّ تسمية القرآن بالمصحف نشأت منذ ذلك الحين، وهذا الجمع هو المسمى "بالجمع الثاني". وقد ظفر مصحف أبي بكر بإجماع الأمة عليه وتواتر ما فيه. وبعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه، إنتقلت هذه الصحف أو الأوراق المُجمَّعة إلى بيت سيدنا عمر طوال فترة خلافته، و لما توفي أصبحت هذه الأوراق عند ابنته حفصة رضي الله عنها.
ســؤال: لماذا كانت هذه الصحف عند حفصة بعد عمر لا عند عثمان بن عفان؟.
الجواب: حفصة هي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين، وكانت حافظة للقرآن كله فضلاً عن كونها تجيد القراءة والكتابة، هذه المميزات جعلتها أهلاً لحفظ الصحف عندها، وكذلك لأن عمر رضي الله تعالى عنه توفي دون أن يُعَيِّن خليفة، بل جعل الأمر شورى بين ستة توفي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم و هو عنهم راضٍ، فبايع المسلمون عثمان، فكيف يوصي بالمصحف إلى عثمان وهو لم يعيِّنه خليفة من بعده؟ لذلك بقي المصحف عند ابنته حفصة رضي الله عنها.
روى البخاري عن أنس أنَّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة - ذلك لأنهم أعاجم يخطئون بقراءة القرآن - فقال لعثمان أدرِك الأمّة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليكِ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله ابن الزبير وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، و قال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يُحرَق.
وقد شرعت اللجنة الرباعية في تنفيذ قرار عثمان سنة خمس و عشرين أي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم بحوالي أربعة عشر سنة. كُتِبَت هذه المصاحف على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. لقد تعمد الصحابة كتابة هذه المصاحف بالخط الذي يكون أكثر احتمالاً للأحرف، وقد وُفِّقوا لذلك لعدم وجود النقط والشكل … وهكذا فإن الأصل في عمل عثمان أن يكون مستجمعاً كافة الأحرف السبعة في مصاحفه وأن عثمان ومن معه لا يفرطون في شيء أوحى به الله إلى رسوله صلى الله عليه و سلم.
روى ابن أبي داود أن سويد بن غفلة الجعفي قال: " سمعتُ علي بن أبي طالب يقول : يا أيها الناس لا تغلو في عثمان، و لا تقولوا له إلا خيراً ( أو قولوا له خيراً ) في المصاحف و إحراق المصاحف، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعاً، فقال ما تقولون في هذه القراءة، فقد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك و هذا يكاد يكون كفراً، قلنا فما ترى؟ قال نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة و لا يكون اختلاف، قلنا فنِعم ما رأيت ". واستنسخت اللجنة سبعة مصاحف، فأرسل عثمان بستة منها إلى الآفاق واحتفظ لنفسه بواحد منها هو مصحفه الذي يسمى " الإمام "، ولقد تلقَّت الأمَّة ذلك بالطاعة وأجمعت الصحابة على هذه المصاحف. ولقد جرَّدت المصاحف العثمانية مما ليس من القرآن كالشروح والتفاسير، فمن الصحابة من كان يكتب في مصحفه ما سمع تفسيره و إيضاحه من النبي صلى الله عليه وسلم مثال ذلك: قوله تعالى: " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم"، فقد قرأ ابن مسعود وأثبت في مصحفه: " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج " فهذه الزيادة للتفسير والإيضاح. وبهذا قطع عثمان رضي الله عنه دابر الفتنة وحصَّن القرآن من أن يتطرَّق إليه شيء من الزيادة والتحريف على مر العصور. و جمع عثمان للقرآن هو المسمى "بـ: "الجمع الثالث". و اتَّبع زيد بن ثابت و الثلاثة القرشيون معه طريقة خاصة في الكتابة ارتضاها لهم عثمان، وقد سمى العلماء هذه الطريقة بـ: "الرسم العثماني للمصحف " نسبة إليه، وهو رسم لا بد من كتابة القرآن به لأنه الرسم الاصطلاحي الذي توارثته الأمة منذ عهد عثمان رضي الله عنه. ولهذا الرسم أحكام وقواعد حيث كُتِبَ على نحو يتوافق و القراءات العشر.
ولما أعيدَت صحف حفصة إليها ظلّت عندها حتى توفيت وقد حاول مروان بن الحكم أن يأخذها منها ليحرقها فرفضت، حتى إذا توفيت أخذ مروان الصحف وأحرقها وقال مدافعاً عن وجهة نظره: " إنما فعلتُ هذا لأنَّ ما فيها قد كُتِبَ وحُفِظَ بالمصحف الإمام، فخشيتُ إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب ". وقد وافقه علماء عصره على هذا وكان فعله صواباً وحكمته عظيمة.
ومن المعروف أنَّ ابن كثير وهو من علماء القرن الثامن هجري ، قد رأى مصحف الشام أي المصحف الذي أرسله عثمان رضي الله تعالى عنه إلى الشام وقال في كتابه " فضائل القرآن: " أمّا المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله، و قد كان قديماً بمدينة طبرية ثم نُقِلَ منها إلى دمشق في حدود سنة 518 هـ. وقد رأيتُه كتاباً عزيزاً جليلاً عظيماً ضخماً بخط حَسَن مبين قوي، بحبر محكم، في رق أظنه من جلود الإبل ".
مما لا شك فيه أنَّ الصحف التي كُتِبَت على عهد النبي صلى الله عليه و سلم و المصاحف العثمانية التي وُزِّعَت على الأمصار، كانت خالية من الشكل والنقط أي من التشكيل بالفتحة و الضمة والكسرة. و مما لا ريب فيه أيضاً أنَّ رسم المصاحف العثمانية التي نُسِخَت على هدي المصحف الأول، يقوم على إملاء خاص به في ذلك العصر وفيما بعده أيضاً وهو يتفق في جملته مع الرسم القرشي في ذلك الوقت، ومن هنا قال عثمان رضي الله عنه للكاتبين كما ورد في صحيح البخاري: " إذا اختلفتم أنتم و زيد في كلمة من كلمات القرآن ( أي في كيفية كتابتها أي إملائها) فاكتبوها بلسان قريش فإنَّ القرآن أُنزِلَ بلسانهم ". إذاً كان للقرآن إملاءً خاصاً من حيث كتابة الهمزة مثلاَ أو الأحرف اليائية و الواوية و من حيث الزيادة و النقص وما شابه ذلك. أما ظاهرة كتابته وهجائه الخاص فلم يطرأ عليها تغيير أو تحوير يُذكر. فقد أخذ الناس يعتبرون الرسم القرآني رسماً معيَّناً خاصاً به ولم يجدوا ما يدعو إلى مدِّ يد التغيير إليه، بعد أن وصل إليهم بهذا الشكل صورة طبق الأصل للكتابة المعتمَدة الأولى. لقد رأى العلماء أنَّ الحيطة في حفظ القرآن تدعو إلى وجوب إبقائه على شكله الأول، و تحريم أو تكريه أي تطوير كتابي فيه تطبيقاً للقاعدة الشرعية الكبرى: " سد الذرائع ". فنهى مالك عن تغيير هذه الكتابة الخاصة بالقرآن كما حرَّم أحمد بن حنبل ذلك أيضاً.
كانت المصاحف العثمانية خالية من النقط و الشكل لأنَّ العرب كانوا يعتمدون على السليقة العربية السليمة التي لا تحتاج إلى الشكل بالحركات. وظل الناس يقرؤون القرآن في تلك المصاحف بضعاً و أربعين سنة حتى خلافة عبد الملك، فلمَا تطرَّق إلى اللسان العربي الفساد بكثرة الاختلاط بالأعاجم وذلك بسبب الفتوحات الإسلامية الواسعة، أحسَّ أولوا الأمر بضرورة تحسين كتابة المصحف بالشكل والنقط وغيرهما مما يساعد على القراءة الصحيحة. ويُرجَّح أنَّ أول من وضع ضوابط للعربية و تشكيل القرآن، هو أبو الأسوَد الدُّؤلي من التابعين، و ذلك بأمر من علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه وكان قد أمره بذلك زياد والي البصرة و لكنه تباطأ في بادىء الأمر إلى أن سمع قارئاً يقرأ قوله تعالى: " إنَّ اللهَ بريء من المشركين ورسولَه"
[ التوبة: 3 ]، فقرأها بجر اللام من كلمة " رسولِه " فغير بذلك المعنى كله و اصبح معنى هذه القراءة الخاطئة أن الله تعالى بريء من كل المشركين ومن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والعياذ بالله تعالى، بينما المعنى الصحيح للآية هو أن الله تعالى و كذلك رسوله صلى الله تعالى عليه و سلم كلٌّ بريء من المشركين. أفزع هذا اللحن ( الخطأ ) أبا الأسوَد فذهب إلى الوالي زياد و قال له: " قد أجبتُكَ إلى ما سألتَ ". وانتهى في اجتهاده أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف وجعل علامة الكسرة نقطة أسفله و جعل علامة الضمة نقطة بين أجزاء الحرف وجعل علامة السكون نقطتين. وأعانه في ذلك عدد من العلماء وتبعه آخرون منهم: يحيى بن يعمر، و نصر بن عاصم الليثي و غيرهما ... فلم ينفرد أبو الأسوَد الدؤلي وحده في تشكيل القرآن و لكنه كان أول من بدأ بذلك. وكلما امتد الزمان بالناس، ازدادت عنايتهم بتيسير الرسم العثماني، فكان الخليل بن أحمد الفراهيدي أول من صنَّف النقط ورسمه في كتاب و أول من وضع الهمزة والتشديد و الرَّوم و الإشمام. ومن المعلوم إنَّ علم النحو لم يُقَعَّد و يُدَوَّن إلا خدمة لضبط القرآن، حتى إنَّ معظم علوم العربية الأخرى إنما قامت لخدمة القرآن أو نبعت من مضمونه. ثم تدرج الناس بعد ذلك فقاموا بكتابة العناوين في رأس كل سورة و وضع رموز فاصلة عند رؤوس الآي و تقسيم القرآن إلى أجزاء وأحزاب و أرباع و الإشارة إلى ذلك برسوم خاصة، و ذِكر المكي و المدني من السوَر. حتى إذا كانت نهاية القرن الهجري الثالث، بلغ الرسم ذروته من الجودة و الحُسن.
ضوابط القراءة الصحيحة : من شروط كون القراءة مقبولة و صحيحة:
1-أن تكون موافقة للرسم العثماني في أحد مصاحفه السبعة.
2-أن تكون متواترة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم.
3- أن تكون صحيحة في لغة العرب.
إن القراءة الصحيحة التي وصلت إلينا عشرة ، و من المعلوم أنه من فروض الكفاية أن يكون في كل بلدة ( كبيروت مثلاً ) حافظاً لكتاب الله تعالى على القراءات العشر بالسند المتصل إلى النبي صلى الله تعالى عليه و سلم و مُجازاً بذلك.
قام أعلام الهدى من الصحابة و التابعين بضبط منازل القرآن ضبطاً يحدد الزمان و المكان، فكانوا يؤرخون كل آية بوقت و مكان نزولها. روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: " والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلَت؟ ولا نزلت آية من كتاب الله إلا و أنا أعلم فيم نزلت؟ ولو أعلم أنَّ أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبتُ إليه ". وقد عني العلماء بتحقيق المكي والمدني بدقة و عناية فائقة، فتتبعوا القرآن آية آية وسورة سورة ، لترتيبها وفق نزولها، مراعين في ذلك الزمان والمكان والخطاب حتى اكتمل بذلك علم سمي " بـ: "علم المكي و المدني ".
أصح الأقوال أن:
المكي: ما نزل قبل الهجرة و إن كان بغير مكة.
المدني: ما نزل بعد الهجرة و إن كان بغير المدينة، بأن نزلت آية ما في مكة بعد الهجرة مثلاً عندما فتح النبي صلى الله تعالى عليه و سلم مكة، فتُسمّى مدنية و لا تُسمّى مكية.
1- الاستعانة بها في تفسير القرآن: فإنَّ معرفة مواقع النزول تساعد على فهم الآية و تفسيرها تفسيراً دقيقاً.
مثال ذلك: من قرأ سورة " الكافرون " و لم يعلم زمن نزولها و هل هي مكية أم مدنية، فإنه يحار في معناها، و قد يستخرج منها أنَّ المسلمين غير مكلفين بالجهاد في أي الأحوال و إنما عليهم أن يقولوا للآخرين لكم دينكم و لي دينِ.
فإذا علم أنَّ هذه السورة إنما نزلت في مكة عندما قال بعض صناديد الشِّرك لرسول الله صلى الله عليه و سلم: " تعالَ يا محمد نعبد إلهك يوماً و تعبد إلهنا يوماً " ، إذا علم هذا ، أدرك أنَّ هذه السورة إنما هي علاج لتلك المرحلة ذاتها و ليست دليلاً على عدم مشروعية الجهاد الذي نزلت فيه آيات كثيرة أخرى في المدينة.
سؤال: من المعلوم أن سورتي المعوذتين نزلتا على رسول الله صلى الله عليه و سلم في المدينة المنورة بعد أن سحره ذلك اليهودي لبيد بن الأعصم، فلماذا يُكتب عنهما في المصاحف أنهما مكّيتان؟.
الجواب: قد تكون هاتين السورتين نزلتنا على النبي صلى الله تعالى عليه و سلم أكثر من مرة. فقد ورد أن سورة الفاتحة نزلت على قلب النبي صلى الله تعالى عليه و سلم مرات عديدة تثبيتاً لفؤاده ، فقد تكون هاتين السورتين نزلتا لما سحر لبيد بن الأعصم رسول الله صلى الله عليه و سلم في المدينة بعد الهجرة، و أوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله تعالى عليه و سلم مرة أخرى بهاتين السورتين تثبيتاً لفؤاده و تعليماً له و لأمته من بعده أن قراءتهما تُبطل سحر الساحر و هما رقية من سحر الساحر أو الحاسد.
بعد وفاة النبي عليه الصلاة و السلام، قام الصحابة من بعده بحمل لواء الإسلام و تبليغ ما علموه منه صلى الله عليه و سلم. و لقد تميَّز الصحابة بخصائص و مميزات أهَّلتهم لحفظ الحديث في الصدور، و فيما يلي نورد أهم العوامل التي ساعدتهم لحفظ الحديث الشريف:
1- صفاء أذهانهم و قوة قرائحهم و ذلك أنَّ العرب أمة أمِّية لا تقرأ و لا تكتب، و الأمّي يعتمد على ذاكرته فتنمو و تقوى لتسعفه حين الحاجة ، كما أنَّ بساطة عيشهم بعيداً عن تعقيد الحضارة جعلتهم ذوي أذهان نقية، لذلك عُرِفوا بالحفظ النادر و الذكاء العجيب حيث اشتهروا بحفظ القصائد من المرة الأولى و حفظ الأنساب ...
2- قوة الدافع الديني لأنهم أيقنوا أن لا سعادة لهم في الدنيا و لا فوز في الآخرة إلا بهذا الإسلام، فتلقَّفوا الحديث النبوي بغاية الاهتمام و نهاية الحرص.
3- تحريض النبي صلى الله عليه و سلم على حفظ حديثه، قال زيد بن ثابت: " سمعتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فبلَّغها، فرُبَّ حامل فقه غير فقيه و ربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه " أخرجه أبو داود و الترمذي و ابن ماجه، و في رواية: نضَّر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلَّغه كما سمعه، فربَّ مبَلِّغ أوعى من سامع "، قال الترمذي حديث حسن صحيح. قال العلاَّمة القسطلاني: " المعنى أنَّ الله تعالى خصَّه ( أي ناقل حديث النبي صلى الله تعالى عليه و سلم ) بالبهجة والسرور لأنه سعى في نضارة العلم و تجديد السنّة، فجازاه النبي صلى الله عليه و سلم في دعائه له بما يناسب حاله من المعاملة ". وبالفعل هذا ما نجده في وجوه المحدثين من نضارة ونور يعلو محياهم و حسن سمت يضفي عليهم هيبة و وقاراً.
4- اتباع النبي صلى الله عليه و سلم الوسائل التربوية في إلقاء الحديث على الصحابة و سلوكه سبيل الحكمة كي يجعلهم أهلاً لحمل الأمانة و تبليغ الرسالة من بعده، فكان من شمائله في توجيه الكلام:
أ- أنه لم يكن يسرد الحديث سرداً متتابعاً بل يتأنّى في إلقاء الكلام ليتمكَّن من الذهن، قالت عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه الترمذي: " ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا ولكنه كان يتكلم بكلام بيِّن فصل يحفظه من جلس إليه ".
ب- لم يكن يطيل الحديث بل كان كلامه قصداً، قالت عائشة فيما هو متفق عليه: " كان يحدِّث حديثاً لو عدَّه العادُّ لأحصاه ".
جـ- أنه كثيراً ما يعيد الحديث لتعيه الصدور، روى البخاري و غيره عن أنس فقال: " كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعيد الكلمة ثلاثاً لِتُعقَل عنه ".
5- مواظبة الصحابة على حضور مجالس رسول الله صلى الله عليه و سلم التي كان يخصصها للتعليم و اجتهادهم في التوفيق بين مطالب حياتهم اليومية و بين التفرغ للعلم، فها هو عمر بن الخطاب يتناوب الحضور مع جار له من الأنصار على تلك المجالس، فقال عمر: " كان ينزل صاحبي يوماً و أنزل يوماً فإذا نزلتُ جئتُه بخبر ذلك اليوم من الوحي و غيره و إذا نزل فعل مثل ذلك "، رواه البخاري.
6- مذاكرة الصحابة فيما بينهم، قال أنس: " كنا نكون عند النبي صلى الله عليه و سلم فنسمع منه الحديث فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه ".
7- أسلوب الحديث النبوي، فقد أوتي النبي صلى الله عليه و سلم بلاغة نادرة شغفت بها قلوب العرب وقوة بيان يندر مثلها في البَشَر ومن هنا سمى القرآن الكريم الحديث " حكمة ".
8- كتابة الحديث و هي من أهم وسائل حفظ المعلومات ونقلها للأجيال . ورد في سنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو أنه قال: " كنتُ أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه ... ". وقد تناولت الكتابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قسماً كبيراً من أهم الأحاديث وأدقها لاشتمالها على أمهات الأمور وعلى أحكام دقيقة.
اعتمد أئمة المفتين في هذا الدور و جلّ الصحابة قوانين محددة فيما يتعلق برواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، و أهم هذه القوانين هي التالية:
1- التقليل من الرواية: خشية أن ينتشر الكذب و الخطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ عن سيدنا أبي بكر أنه جمع الناس بعد وفاة نبيهم عليه الصلاة و السلام فقال: " إنكم تحدِّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها و الناس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدِّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا بيننا و بينكم كتاب الله فاستحِلّوا حلاله وحَرِّموا حرامه ".
2- التَّثبت في الرواية: كان الصحابة يتثبَّتون فيما يُروى لهم ، فلم يكن أبو بكر و لا عمر يقبلان من الأحاديث إلا ما شهد اثنان أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه و سلم و ذلك للأسباب التالية:
أ- قوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105].
ب- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا...} [الحجرات: 6].
ج- لما سُئِلَ الزبير بن العوّام لماذا لا تُحَدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدِّث فلان و فلان؟ قال: " أما إني لم أفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم و لكني سمعته يقول: " من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ".
د- ورد في الحديث الصحيح أنَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: " من حدَّث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذِبَين ".
إذاً فقد كان من طبع الصحابة الحرص الشديد و الخوف من الكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف لا وقد مدحهم النبي صلى الله عليه و سلم فيما يرويه البخاري: " الله الله في أصحابي لا تسبوهم ولا تؤذوهم فمن آذاهم فقد آذاني و من آذاني فقد آذى الله، والذي نفسي بيده لو أنَّ أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مدَّ أحدهم و لا نصيفه ".
روى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أنَّ جدةً جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تُوَرَّث فقال: " ما أجد لكِ في كتاب الله شيئاً وما علِمتُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر لكِ شيئاً "، ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال: " سمعتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم يعطيها السدس" فقال: "هل معك أحد "؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه ( أي أعطاها السدس ).
و عن سعيد أنَّ أبا موسى رضي الله عنه سلَّم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من وراء الباب ثلاث مرات فلم يُؤذن له فرجع فأرسل عمر في أثره فقال: لم رجعت؟ قال:" سمعتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذا سلَّم أحدكم ثلاثاً فلم يجب فليرجع "، قال: "لتأتيني على ذلك ببيِّنة أو لأفعلنَّ بك "، فجاءنا أبو موسى منتقعاً لونه و نحن جلوس فقلنا:" ما شأنك "؟ فأخبرنا و قال: " فهل سمع أحد منكم "؟ فقلنا: " نعم كلنا سمعه "، فأرسلوا معه رجلاً منهم حتى أتى عمر فأخبره. و قد قال عمر لغير واحد من الصحابة: " أما إني لم أتهمك و لكنني أحببتُ أن أتثبَّت ".
3- نقد الروايات: و ذلك بعرضها على نصوص و قواعد الدين، فإن وجد مخالفاً لشي منها ردوه و تركوا العمل به. هذا هو الخليفة عمر فيما أخرج مسلم عنه: أفتى عمر بن الخطاب بأنَّ المبتوتة ( التي طلقها زوجها ثلاثاً ) لها النفقة و لها السكنى و لمَّا بلغه حديث فاطمة بنت قيس أنَّ زوجها طلقها ثلاثاً فلم يجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم لها سكنى و لا نفقة، قال: "لا نترك كتاب الله و سنّة نبينا لقول امرأة لعلها حفظت أو نسيَت، قال الله عز و جل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1].
و لا بد من الإشارة إلى أنه لم يكن هناك حاجة إلى جرح و تعديل أي البحث و التدقيق عن عدالة و صدق الراوي لأنَّ الصحابة كلهم عدول و ذلك بنص القرآن، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]. أما المنافقون فكانوا كما قال عنهم العلماء أحقر من أن يحملوا عِلماً أو يؤخذ عنهم العلم !!!.
كان علماء الصحابة إذا سُئلوا في مسألة ما، نظروا في كتاب الله تعالى فإن لم يجدوا نظروا في سنة النبي صلى الله عليه و سلم، فإن لم يجدوا نصاً لا من الكتاب و لا من السنة، سألوا باقي الصحابة هل قضى أحد قبلنا في هذا الأمر بقضاء؟ فإن سمعوا أنَّ أحداً قضى بقضاء و نفذ و وجدوا أنَّ الأمر قريب قضوا. و لقد كان الصحابة يتحفظون تحفظاً شديداً في الاجتهاد، فكان الواحد منهم إذا اضطر إلى الاجتهاد في حال عدم وجود نص، جمع مجلس الشورى و طرح القضية التي هو بصددها و استشار الصحابة العلماء و تجاذب معهم أطراف البحث والنقاش ولم ينفرد في إعطاء حكم، فإن انتهى إلى شيء - سواء كان أبو بكر أو عمر أو عثمان أو أي ممن جاء بعدهم - كان يقول: " هذا رأيي فإن كان صواباً فمن الله تعالى و إن كان خطأً فمني و أستغفر الله تعالى ".
ورد أنَّ رجلاً ممن أرسلهم سيدنا عمر والياً على جهة من الجهات قال للناس: هذا ما قضى به الله و قضى به عمر، فسمع عمر ذلك و أرسل إليه يقول: " بئس ما قلتَ، بل هذا ما قضاه عمر، لا تجعلوا الرأي سنّة الله في الناس فتحمِّلوها خطأ الناس ".
و كان الصحابة يقولون إذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم المُؤيَّد بالوحي ، قال الله تعالى له: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] فما بالك بمن جاء بعده ! فإذا استشاروا و أجمعوا على رأي واحد، فذاك هو الإجماع، أما إذا اختلفوا فكل يقضي بما يرى. و من مظاهر الشورى أنَّ سيدنا أبا بكر رضي الله عنه لمّا جهّز جيش أسامة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم - و كان هذا أول ما قام به أبو بكر - قال لأسامة و قد رأى أنَّ عمراً رضي الله عنه قد انخرط بين أفراد الجيش: " إن رأيتَ أن تعطيني عمر و تبقيه عندي فعلتُ ". انظروا كيف يقول خليفة المسلمين، -ذاك الشيخ الكبير لأسامة الذي لم يبلغ من العمر التاسعة عشر بعد، هذا الكلام بأدب متناهي! لماذا ؟ لأنَّ أبا بكر كان يرى أنه قد تعرض له الفتوى و المشكلات و هو بحاجة إلى أمثال سيدنا عمر رضي الله عنه ليستشيره و ليأخذ رأيه. و طبعاً أجابه أسامة لذلك و بقي عمر عند أبي بكر الذي لا يتأخر في استشارة من حوله من الصحابة كعثمان و عليّ و غيرهم رضي الله عنهم أجمعين. و ما أكثر ما كان يقول عمر: " لولا علي لهلك عمر ". و كذلك علي كان إذا عُرِضَ عليه رأي لم يبُتّ بهذا الرأي حتى يستشير كبار الصحابة و في مقدمة هؤلاء أبو بكر و عمر.
فلنلاحظ صورة الأخوَّة الواقعية في حياة الصحابة و آل البيت و محبتهم لبعضهم البعض، لا شك أنَّ جيلاً ربّاه رسول الله صلى الله عليه و سلم لا بد أن يكون هذا حاله. مستحيل أن يكون النبي عليه الصلاة و السلام أعظم مُرَبّي أوجده الله تعالى لينجد به الإنسانية ثم يخفق في تربية أصحابه. فإن تصوّرنا أنه بعد وفاته صلى الله عليه و سلم كان أصحابه أعداء لآل البيت و العكس لكان ذلك علامة على أنه أخفق في تربية هذا الجيل و هذا يُعَدّ عيباً شديداً في رسول الله صلى الله عليه و سلم -وحاشاه من ذلك- الذي لم يستطع أن يربي جيلاً واحداً فهو أعجز من أن يربّي أمّة !!! و الرسول صلوات الله و سلامه عليه منزّه عن مثل هذا.
سُئِلَ عليّ لماذا كثُرَت الفتن في عصره و لم تكثر في عصر أبي بكر و عمر فقال رضي الله عنه: " لمّا كانوا هم الخلفاء كنتُ أنا الرعية فأطعنا و لمّا صرتُ أنا الخليفة كنتم أنتم الرعية فعصيتم ".
إذاً كان الصحابة يتواصون بالتدقيق في مسألة الاجتهاد بعد الشروط التي ذكرناها كلها، كما كانوا يتواصون فيما بينهم بالتريّث و الفهم الشديد وعدم العجلة في الإفتاء، فها هو عمر لمّا أرسل كتابه لأبي موسى قال له بعد أن أمره أن يتتبع نصوص القرآن و السنّة فإن لم يجد، قال له: " الفهم، الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب الله و سنّة رسول الله صلى الله عليه و سلم "، أي لا تستعجل، تريَّث وفكِّر وتأمَّل.
ولا بد من الإشارة إلى أنَّ سيدنا عمر رضي الله عنه هو أول من فصل سلطة القضاء عن رئاسة الدولة، ففي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر كان كل منهما رئيس الدولة و القاضي في آن واحد . وفي عصر عمر، عندما اتسعت الفتوحات ولم يعد يجد الوقت كافياً لأن يجلس مجلس القضاء و مجلس إدارة أمور المسلمين، عندئذ فصل سلطة القضاء عن سلطة رئاسة الدولة وعيَّن أول قاضٍ أثناء خلافته و هو جريج رضي الله عنه.
وكان الصحابة لا يجيبون على سؤال فرض لم يقع بعد، فإذا سألهم سائل عن مسألة ما، كان أحدهم يجيب: " هل وقعت هذه المشكلة التي تسأل عنها "؟ فإن قال لا ما وقعت بعد ولكننا نحب أن نعلم إن وقعت هذه المشكلة ماذا نصنع ! كان الصحابي يجيب: " إذا وقعت فاسألوا عنها أمَّا الآن فقد كفانا الله مهمة البحث في أمر لم يقع ". فهم لا يريدون توسيع نطاق الإجتهاد إلى أكثر من الحد الضروري، وهذه سياسة كانت متَّبَعة من قِبَل جميع علماء ذاك العصر.
ســؤال: هل وقع الخلاف في الاجتهاد في أحكام الشريعة الإسلامية ومتى و قع و لماذا ؟
الجواب: أمَّا في عصر رسول الله صلى الله عليه و سلم فالخلاف لم يقع ولا سبيل أصلاً للخلاف ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم حي يُمكِن الرجوع إليه في أي أمر.
وبعد وفاته عليه الصلاة و السلام، بدأ الخلاف الاجتهادي يظهر في بعض المسائل الفرعية التي لا تتعارض مع أصول الدين للأسباب التالية:
1- تفاوت الصحابة في رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلٌ حسب وضعه ومقدار تفرغه وملازمته له . ونتيجة لذلك كان إذا وقعت مشكلة، تسائل الصحابة عن حكمها، والذي لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر شيئاً ، يفتي بظاهر القرآن. أما الذي حفظ وروى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قدراً أكبراً فهو يذكر أنَّ هذا الموضوع قد أوضح النبي عليه الصلاة و السلام حكمه، فهو يختلف في فتواه عن الأول الذي لم يسمع و القاعدة تقول: من حفظ حجة على من لم يحفظ. من هنا كان لا بد أن يقع الاختلاف في الفتاوى بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكانت إذا عرضت على أبي بكر أو عمر حادثة جديدة ولم يُسمَع من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها شيئاً، جمع الصحابة وقال: " أنشدكم الله رجلاً سمع من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوى في هذه القضية ". وكان من عادة عمر رضي الله عنه إذا سُئِلَ في موضوع أن يبحث عنه في كتاب الله ثم السنّة فإن لم يكن قد سمع في المسألة شيئاً نادى في الناس: " من سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة شيئاً " ؟ فإن لم يجبه أحد قال: " هل قضى أبو بكر في هذا الموضوع من قبلي شيئاً "؟ فإن قال له قائل إنَّ أبا بكر قد سُئِلَ وقضى في هذا الأمر بكذا، قضى عمر بمثل ما قضى به أبو بكر رضي الله عنهما وإلا اجتهد عمر.
مثال: دية الأصابع، رجل قُطِعَت إصبعه، الخنصر أو البنصر أو السبابة أو الوسطى، ما هو القدر الذي ينبغي أن يؤخذ من الجاني كدية لهذا الإنسان؟ فكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الموضوع وهو لا يذكر في هذا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يجتهد في الأمر، وأراد أن يجعل دية كل إصبع على حسب فائدة تلك الإصبع، ولكنه تريَّث و أخذ يسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، فجاء من أخبره أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قضى بأنَّ في كل إصبع عشراً من الإبل متساوية يعني في قطع الأصابع العشرة دية كاملة. فرجع عمر رضي الله عنه وقال: " إن كدنا لنقضي في هذا برأينا ".
مثال آخر دية الجنين: سُئِلَ سيدنا عمر رضي الله عنه عن دية الجنين، اعتدى إنسان على امرأة حامل فأسقطت جنيناً، ما الجزاء؟ وقف عمر يناشد المسلمين أن يكون فيهم رجلاً سمع عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمراً في الدية. معلوم في القرآن أنَّ عقاب من اعتدى على إنسان و مات، هو القصاص فإن عفى وليَّه تصبح عقوبته دفع الدية، هذا هو الحكم العام و الجنين يُعتبَر إنساناً و مات، وعلى هذا يأخذ الجاني الحكم نفسه، إما القصاص و إما الدية.
و لكن عمر تريَّث، لعل في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئاً خاصاً. فقام أحد الصحابة وقال إنَّ جمل ابن مالك جاء يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كانت له زوجتان فتخاصمتا فضربت إحداهما الأخرى فألقت جنيناً ميتاً، فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم للجنين بغُرَّة يعني بنصف عشر الدية (خمسة من الإبل) فتهلل وجه عمر باسماً وقال: " إن كدنا أن نقضي في هذا برأينا ".
2- عدم الاتفاق على صحة نسبة حديث ما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم.
3- عدم الاتفاق على معنى كلمة أو جملة في كتاب الله تعالى أو حديث المصطفى عليه الصلاة و السلام و ذلك بسبب ورود لفظ يحتمل معنيين.
4- اختلاف الفتوى بسبب الرأي: كانت ترد على الصحابة أقضية لا يرون فيها نصاً من كتاب أو سنّة وإذ ذاك كانوا يلجأون إلى القياس وكانوا يعبِّرون عنه بالرأي.
5- قياس الفرع على الأصل: البعض يرى إنَّ هذا الفرع يشبه ما نص الله تعالى عليه في آية كذا.
نعرض لطائفة من أمثلة الخلاف بين الصحابة في بعض الفتاوي:
- عُرضت مشكلة على ابن مسعود رضي الله عنه: رجل عقد نكاحه على امرأة و لم ينص في هذا العقد على مهر و مات قبل الدخول بها، فما الذي تستحقه هذه المرأة ؟ أفتى ابن مسعود بأنَّ لها كامل مهرها أي صداق مثلها من النساء. بينما سيدنا علي كرَّم الله وجهه عندما سمع بهذه القضية قال: " أنا أختلف معه في هذه المسألة، هذه المرأة إذا مات زوجها ليس لها إلا الميراث، تأخذه و ليس لها ما وراء ذلك شيء وعليها العدة و لا صداق لها ". سبب هذا الخلاف أنَّ هذه المسألة ليس فيها نص واضح صريح من كتاب الله تعالى، كل ما في الأمر قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236].
يقول سيدنا علي: " أرأيت لو أنَّ زوجها لم يمت و لكن طلق ، ليس لها شيء بنص كلام الله عز و جل ". فسيدنا علي قاس وفاة الزوج على طلاقه لها. قال ابن مسعود: " الرجل الذي يطلق يطلق بقصد الاختيار و يترتب على ذلك أشياء كثيرة، لكن مات الزوج و حبل الزوجية موجود، ولا يسبب الموت انقطاع الزوجية عند جمهور العلماء، فالموت لا يُقاس على الطلاق لأن الطلاق عمل اختياري والموت أمر قصري ".
مسألة أخرى: المرأة التي توفي عنها زوجها و هي حامل، ما عدتها ؟
سيدنا عمر رضي الله عنه قال : عدتها وضع حملها. و قال سيدنا علي و ابن عباس : عدتها بأبعد الأجلين، أي أيهما كان أبعد وضع حملها أم مضي أربعة أشهر و عشراً تأخذ به . قال جمهور الفقهاء انَّ عدة المرأة تنتهي بوضع حملها و القول بأبعد الأجلين مرجوح ، و دليل ذلك ما أخرجه البخاري و مسلم عن سبيعة بنت الحارث الأسلمية أنها كانت تحت سعد بن خولة و هو ممن شهد بدراً فتوفي عنها في حجة الوداع و هي حامل ، فلم تلبث أن وضعت حملها بعد وفاة زوجها ، فلما طهرت من دم النفاس تجمَّلت للخُطّاب ، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها: " ما لي أراكِ متجمِّلة ، لعلك ترجين النكاح ؟ والله ما أنتِ بناكح حتى يمر عليكِ أربعة أشهر و عشرا " ! قالت سبيعة: " فلما قال لي ذلك جمعتُ عليَّ ثيابي حين أمسيتُ ، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأني قد حللتُ حين وضعتُ حملي و أمرني بالتزوج إن بدا لي ". و قد رُوِيَ أنَّ ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة لما احتُجَّ به عليه.
الخلفاء الراشدون و سيدنا عبد الله بن مسعود و زيد بن ثابت و عبد الله بن عباس و عبد الله بن عوف و عبد الله بن عمر و هؤلاء التسعة كانوا في ذلك العصر بمثابة الأئمة الأربعة في عصرنا.
ســؤال: لماذا انحصرت الفتيا ببعض الصحابة و لم يفتوا كلهم؟
الجواب: لأن عامة الصحابة لا وقت و لا قدرة لهم على الاجتهاد ، فمنهم من كان يشتغل بالزراعة و منهم من كان يشتغل بالتجارة و منهم من كان يشتغل بالجهاد و هكذا و حتى يصل الإنسان لرتبة يستطيع معها الاجتهاد لا بد له من علم غزير و ذلك يحتاج عادة إلى وقت و تفرُّغ. فكان عامة الصحابة يأخذون بفتاوى واحد من هؤلاء التسعة غالباً كما نأخذ نحن اليوم بفتاوى واحد من الأئمة الأربعة.
ســؤال: لماذا لم يمد الله تعالى بحياة النبي صلى الله عليه و سلم ليجيب على هذه الأسئلة التي حدثت و استجدت في عصر الصحابة ؟
الجواب: لكي يعلِّم الله سبحانه وتعالى هذه الأمة الاجتهاد وكيفية استنباط الأحكام من النصوص وحتى يخفف عنها لأن في اختلاف الفقهاء سعة.
ســؤال: الحكم في شرع الله تعالى أليس واحداً؟ فكيف لنا أن نأخذ بقول أكثر من إمام؟
الجواب: إنَّ الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، فإذا عمِّيَت علينا دلائل حكم شرعي وتشابهت الأدلة ولم نستطع أن نصل إلى الحكم بيقين، فإنَّ من رحمة الله تعالى بعباده أنه لا يطالبهم إلا ببذل الجهد في معرفة حكمه تعالى. مثال ذلك: الاجتهاد في القِبلة في الصلاة، هي حقيقة واحدة ولكن في حال لم تتبيَّن ولم يُتمكن لأربعة أشخاص من تحديدها جاز لكل واحد منهم أن يصلي إلى جهة ما، حسب اجتهاده الشخصي وصلاتهم صحيحة بالاتفاق حتى و لو صلى كل واحد منهم إلى جهة مختلفة عن جهة الآخر.
سؤال: يدَّعي أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام: كان بعض من هؤلاء الصحابة عندهم روح واسعة لفهم النص و كانوا يتجاوزون النص إلى ما يسميه علماء القانون اليوم بروح النص. ويقول أحمد أمين إنَّ في مقدمة هؤلاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فعمر كان عبقرياً وكان لا يقف عند حرفيّة النص بل كان يتجاوزه إلى المصالح وإلى العلل وإلى روح التشريع الإسلامي. ها هو في أكثر من حالة خالف النص و عمل بالمصلحة، مثال ذلك كما يدَّعي أحمد أمين:
1- قال الله تعالى: " إنما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها والمؤلفة قلوبهم... "، عطَّل عمر سهم المؤلفة قلوبهم لما في ذلك من فهم و مراعاة لواقع المسلمين و مصلحتهم.
2- يقول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، سرق بعض الناس في عام المجاعة متاعاً فلم يقم عليم عمر الحد.
3- قضى عمر بأنَّ الرجل الذي قال لزوجته أنت طالق ثلاثاً بكلمة واحدة، تطلق ثلاثاً، و هذا مخالف لقوله تعالى: " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان "، ومخالف لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: " كان الطلاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، طلاق الثلاث واحداً، و كان ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر، فقال عمر لقد استعجل الناس في أمر كانت لهم فيه أناة فمن استعجل أناة الله ألزمناه به. فطلاق الثلاثة بكلمة واحدة يُعتبر ثلاث طلقات. ويضيف أحمد أمين فيقول، إنَّ عمر في كل ذلك إنما كان عبقرياً و ذكياً لأنه لم يتمسك بحرفية النص و إنما رأى المصلحة وجرى وراءها و إن خالفت النص و هذا هو المطلوب كما يزعم أحمد أمين. فهل كان من بين الصحابة من كان يتجاوز حرفِيَّة النصوص و يأخذ بروح النص كما يقول بعض الناس اليوم، و يأخذ بالمصالح التي تعتمد عليها النصوص، بمعنى آخر هل كان الصحابة أصحاب نزعة تحررية؟
الجواب: كلام أحمد أمين المضلل قد يدفعنا بناءً لما تقدم إلى القول بأنَّ الربا حلال و المتاجرة بالخمر و السِّلم مع اليهود كذلك ! و أما القول أن المصلحة قد تكون في مخالفة النص من كتاب الله تعالى، فهذا كفر و العياذ بالله تعالى، لأنه من أعلم بمصلحة الناس من رب الناس، من خالق الناس الذي يعلم سرهم ونجواهم و يعلم ما كان و ما سيكون و ما لم يكن ولو كان كيف يكون. و الحقيقة أنه ما وُجِدَ قط إنسان أكثر حيطة في التمسك بالنص و حرفيته من عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقد مر معنا من خلال الأمثلة التي ذكرناها سابقاً في هذا البحث كيف كان ينادي بالناس هل منكم من سمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئاً في هذا ؟!!! لكن من الذي يستطيع أن يطبق النص؟ إنَّ أقدر الناس على تطبيق النص، أفهمهم للنص و أعرفهم و أعلمهم للقواعد العربية و أصول الدلالات في منطوق النص و مفهومه الموافق و مفهومه المخالف و دِلالة الخطاب و فحواه. وعمر كان من أعلم الناس بقواعد تفسير النصوص، و تعالوا ننظر معاً ماذا فعل عمر؟.
بالنسبة لقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ..} [التوبة: 60]، هناك في اللغة العربية اسم موصول للفقراء أي للذين يتصفون بالفقر، للمساكين أي للذين يتصفون بالمسكنة، للعاملين عليها أي للذين يقومون بجباية الزكاة، للمؤلفة قلوبهم أي للذين تشعرون بالحاجة إلى أن تؤلفوا قلوبهم ... الفقراء، إن زال الفقر عنهم لن يعودوا أهلاً لأخذ الزكاة، ومناط وجوب إعطاء الزكاة للمؤلفة قلوبهم أن يشعر المسلمون أنهم بحاجة إلى تأليف قلوب من وفدوا إلى الإسلام من جديد. إذاً مناط الحكم أن ننظر إلى واقعنا، فإذا كان هذا الواقع عزيز قوي وكان من دخل في الإسلام، وحده يعزه و يغنيه و يحميه، إذا وجدنا أنَّ الأمر كذلك فإنَّ مناط دفع الزكاة إليهم ارتفع. أما إن كان الإسلام في ضعف فيكون حكم إعطاء الزكاة للمؤلفة قلوبهم عندئذ سارياً، وقد كان الإسلام في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عزيزاً لا بل في أعزِّ أحواله.
بالنسبة للمسألة الثانية، وهي أنَّ رجلاً سرق في عام المجاعة و كان أجيراً و علم عمر أنَّهم كانوا يبخسون حقه فقال لهم: " والله لولا أني أعلم أنكم تظلمونه و لا تعطونه حقه لقطعتُ يده "، و الآن عام مجاعة ، فجمعاً بين النصوص التالية: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، و قوله صلى الله عليه و سلم: " ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم فإنَّ الحاكم لأن يخطىء في العفو خيراً من أن يخطىء في العقوبة "، و هذا قانون عام في القضاء و بدلاً من العقوبة يعزِّر القاضي المذنب ويعاقبه و لكن لا يقطع يده. إذاً عمر عمل بالنص و لكنه علم بالحديث الذي خصص الآية وقضى بموجبه و ليس كما زعم الجاهل بأنه ترك النص و تبع المصلحة التي رآها مناسبة و في ذلك دليل على أنَّ الحديث يبين و يشرح كلام الله تعالى الذي قال في كتابه العزيز: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. هذا من جهة و من جهة أخرى، فإنَّ للسرقة نصاباً حتى تُقطع يد السارق فإن سرق شيئاً قيمته دون النصاب يُعَزَّر ولا تُقطَع يده. والمبلغ الذي سرقه الرجل ربما ليس بذاك المبلغ الكبير أو احتمال أن يكون سرقه ليسد ضرورة والضرورات تبيح المحظورات.
ملاحظة: ينبغي قبل أن نطبق هذه القاعدة أن نعلم ما معنى الضرورة وما الفارق بين الضرورات والحاجيات و التحسينيات؟.
وأما المسألة الثالثة، فقوله تعالى: " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان "، لا علاقة له بالموضوع الذي أفتى به عمر، و إنما هي بيان للطلاق وأنه ينبغي أن يفرق بين الطلقة والأخرى وإلا كان آثماً، أي من طلق زوجته ثلاثاً في مجلس واحد كان آثماً. أما من لم يتق الله تعالى وارتكب المحرَّم فقال لزوجته أنت طالق بالثلاث فهذا لن يجعل الله تعالى له مخرجاً لأن الله تعالى قال: " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ... "، وهذا لم يتق الله تعالى، وارتكب الحرام و طلق زوجته ثلاثاً بمجلس واحد ، لم يجعل الله له مخرجاً. فإذاً القرآن يقضي بأن من طلق زوجته ثلاثاً في مجلس واحد فهو ثلاث. وهناك أحاديث صحيحة كثيرة نصَّت على أنَّ الرجل إن طلق ثلاثاً في مجلس واحد فهو ثلاث ولكنه طلاق بدعي مكروه، ومن ذلك حديث رواه الشيخان عن عويمر العجلاني رضي الله عنه وقد اتهم زوجته بالزنا، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم، فدله على الملاعنة التي أنزلها الله تعالى في محكم كتابه. و لكنه لم يكن يعرف أنَّ نتيجة الملاعنة التفريق الأبدي، وعندما علم ذلك جلس أمام ركبتي رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال: " يا رسول الله كذبتُ عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثاً ". فإذاً عويمر العجلاني طلق زوجته في مجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثاً بكلمة واحدة ، و لولا أنَّ هذا كان جارياً في عصر النبوة لما قال ذلك.
وحديث فاطمة التي قالت لسيدنا عمر طلقني زوجي البتة فلم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه و سلم نفقة و لا سكنى ، كلمة البتة كناية عن ثلاث طلقات و في ذلك دليل أنَّ النبي عليه الصلاة و السلام أفتى أنه طلقها ثلاثاً.
أيضاً ما رواه الشافعي و الترمذي و النسائي و كثيرون عن ركانة رضي الله عنه أنه طلق زوجته قائلاً أنت طالق البتة، و جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نادماً فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم: " آلله ( أي أقسم عليك بالله ) ما أرَدتَ ( بكلمة البتة ) إلا واحدة ؟ فقال ركانة: " والله ما أردتُ بها إلا واحدة ". فأعادها رسول الله صلى الله عليه و سلم له، فلو لم تكن كلمة البتة تعني ثلاثاً لَما سأل النبي صلى الله عليه و سلم ركانة ماذا أراد من قوله البتة، و لو لم يكن طلاق الثلاثة في المجلس الواحد يقع لما سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم ركانة عن قصده بكلمة البتة. أما حديث مسلم الذي يرويه عن طاووس و عن ابن عباس: " كان طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم واحدة في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم و في عهد أبي بكر و في صدر من خلافة عمر ثم قال عمر إنَّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فمن استعجل أناة الله ألزمناه بها "، قال ابن جرير الطبري في شرح هذا الحديث و أبو وليد الباجي و النووي في شرحه على صحيح مسلم، معناه أي كان الرجل في صدر الإسلام إذا أراد أن يطلِّق زوجته ثلاث تطليقات لا يستعمل إلا نفس اللفظة أي لفظه البتة فيقول: " أنت طالق البتة "، و إذا أراد أن يطلق طلقة واحدة قال : " أنت طالق البتة ". فالبتة كناية عن طلقة واحدة أو ثلاث حسب النية، و كان الشائع الأغلب في عهد النبي صلى الله عليه و سلم و في عهد أبي بكر و شطر من عهد عمر أنه يقصد بذلك طلقة واحدة. هذا هو الغالب والعام لأنه نادر جداً من الصحابة من طلق ثلاث مرات دفعة واحدة لأنَّ ذلك محرَّم. فكان الرجل إذا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أو أبي بكر و قال له إني طلقتُ زوجتي البتة، صحيح أنَّ البتة كناية عن طلاق الثلاث و لكن الشائع الأغلب أنه يقصد بها واحدة، لذلك كان يُسأل عن نيته، فإذا قال واحدة حُكِمَ له بواحدة. ولمّا كانت خلافة عمر تغيَّر حال الناس و أخذ كثير من الناس يطلق ثلاث طلقات بكلمة واحدة، و شاع بينهم استعمال لفظ البتة على الثلاث، لذلك حكم عمر على من قال له إني طلقتُ زوجتي البتة أنه طلقها ثلاثاً إلا أن يُقسِم أنه ما قصد إلا واحدة ذلك لأننا نحكم على الألفاظ حسب العرف فإذا كان عرف الناس أن يطلِّقوا طلاق البتة و يقصدون به ثلاثاً وقع ثلاثاً كما أصبح العرف في عصرنا لمن قال لزوجته أنت عليّ حرام وقع طلاقاً و هذا اللفظ في أصله كناية و لكن لما شاع استعمال الناس له على أنه طلاق أصبح يُفتى لمن قال هذا اللفظ لزوجته أنه طلقها. و هذا الذي قال به عمر من أن من طلق زوجته ثلاثاً في مجلس واحد وقعت ثلاث تطليقات و بانت منه بينونة كبرى و هو ما قاله جمهور علماء الحديث و أجمعت عليه الأمة. إذاً هذا الحديث في وادٍ و ما استدلَّ عليه و فهمه أحمد أمين في واد آخر!
شبهة أخرى: عندما انتصر جيش عمر في القادسية بقيادة سعد بن أبي وقاص و فتح المسلمون العراق، غنم المسلمون غنائم كثيرة و أموال منقولة و غير منقولة. أمَّا الأموال غير المنقولة فقد اعتُبِرَت أنها سواد العراق و هي مثل غوطة دمشق أراضٍ واسعة شاسعة كلها مزروعة. سيدنا عمر قسم الأموال المنقولة على الجيش و لكنه لم يقسم السواد و ذلك بعد أن شاور الصحابة مثل سيدنا معاذ و علي و عثمان و جمهور الصحابة كانوا معه في ذلك.
يقول بعض المستشرقين: تعاطى عمر مع روح النص حين فعل ذلك لأنه خلاف الآية القائلة: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}[الأنفال: 41].
الجواب على هذه الشبهة ما يلي: قال عمر و وافقه على ذلك جمهور الصحابة، لو قسمنا هذه الأراضي الشاسعة سيمتلكها المسلمون في هذا العصر وتأتي الأجيال الأخرى و ليس لهم شيء، فرأى أنه من الخير أن تكون هذه الأراضي ملكاً لبيت مال المسلمين حتى تستغني الأجيال به إلى ما شاء الله. و لكن يا ترى هل تجاوز عمر بذلك النص؟
قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الحشر: 7] {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]. إذاً استناداً على قول الله تعالى هذا تُعطى هذه الأموال غير المنقولة لله أي للمصالح العامة و للرسول ( و مِن بعدِه لبني هاشم ) و لذي القربى و اليتامى و المساكين و الفقراء و الأجيال الآتية من بعدهم، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ}. لذلك قال عمر إذا وزعتُ هذه الأراضي الآن و امتلك كل واحد منكم قسماً منها، كيف يمكن أن أنفذ أمر الله في أن أجعل في هذه الأراضي حصصاً للأجيال القادمة ؟!!! أما ما جاء في سورة الأنفال، فالمقصود به الغنائم المنقولة. و الآن بعد هذا التوضيح أليس هذا تمسُّكاً بالنص من سيدنا عمر؟ و لكن من يفقه؟ و من يعلم كيف يستخرج الأحكام من النصوص؟ و هذا لا يعني أنَّ الإنسان لا يبحث عن المصلحة و لكن المصلحة تكون مع النص لأنَّ الله تعالى أعلم أين تكون مصلحة العباد. أمّا ما ليس فيه نص كالمصالح المرسلة، فها هو عمر الذي خطط لبناء الكوفة و البصرة حيث أرسل مهندسه و أمر أن تكون الشوارع الأساسية عرض 30 ذراع و الشوارع الفرعية عرض 20 ذراع، والبيوت التي تُبنى على الشوارع الأساسية لا مانع من أن يكون ارتفاعها عالياً و البيوت التي من ورائها أخفض.
عندما فُتِحَت العراق و الشام جمع عمر مجلس شوراه و قال لهم رأيتُ التجارة بأيدي الأقباط و إني آمركم أن تتجروا فقال له بعض الحاضرين يا أمير المؤمنين أمر كُفيناه أي الأقباط كفونا العمل، كأنه يقول أنَّ الله تعالى جعلهم خدّاماً لنا، فلماذا نتاجر ؟ قال عمر: "لأن قلتم هذا والله ليكوننَّ رجالكم تَبَعاً لرجالهم و ليكوننَّ نساؤكم تبعاً لنسائهم ". فإذاً كان عمر كغيره من الصحابة الكرام يهتم بمصلحة المسلمين، و هذه الأمثلة التي ذكرناها من المصالح المرسلة . أما إذا كان هناك نص، فكان عمر و باقي الصحابة أكثر من يتمسك به لأنهم يعلمون حقاً أن المصلحة مع النص {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. 

انظر الجزئين 3+4

ليست هناك تعليقات: